لهيب الصحراء - طريق الرمال المتحركة [ 3 ]
رواية لهيب الصحراء هي حكاية عن مقاتل داعشي يراجع أفكاره خلال عملية بين ليبيا والمغرب حين يكتشف فساد أفكار داعش، وتحكم بعض الأنظمة العربية فيها. خلال رحلة أبي حفص عبر صحراء ليبيا، متوقفا في مخيمات تيندوف في الجزائر، يكتشف العلاقات السرية بين أمير داعش في ليبيا والمخابرات الجزائرية. يجد أبو حفص نفسه في مواجهة التناقضات التي يرزح تحتها الفكر الداعشي، وكيف أن القادة يصطادون الشباب مستغلين لحظات ضعفهم الإنسانية لملئ رؤوسهم بأفكار متطرفة وفاسدة. حين يقرر أبو حفص التخلي عن العملية والهروب من سجن أفكار داعش، يجد أمامه ضابطا من المخابرات الجزائرية لهما معا تاريخ مشترك، وعندها تبدأ المواجهة، ويشتعل اللهيب في الصحراء.
[ 3 ]
اقترب انتصاف الظهيرة وسيارة الرجال تلتف حول كثبان الرمال والصخور آخذة مسارات معقدة بعيدة عن دوريات الجيش الليبي.
كانوا قد خرجوا مباشرة بعد صلاة الفجر الموالي. جلس أربعة رجال في الخلف، وجلس أبو حفص في الكرسي الأمامي بجانب السائق، الأخ يونس الذي بلغت سعادته آفاق السماء حين جاءت القرعة من نصيبه هو أيضا.
كان الرجال صامتين أغلب الوقت، إلا من مزاح خفيف بين وقت وآخر، وتلاوات جميلة يتحفهم بها الأخ يونس متى ما شاء.
التفت أبو حفص يتملى في وجه الأخ يونس. شاب بالكاد تخطى من عمره واحدا وعشرين عاما. يطفح وجهه بالحبور. يراه أبو حفص سعيدا كأنه ذاهب لنزهة ربيعية مع حبيبته. يتذكر أبو حفص أنه كان يوما مثل الأخ يونس. منفتحا على الحياة بتدفق، ثم لاحقا منفتحا على الموت والاستشهاد بذات التدفق. الآن، وإن كانت ملامحه تبدو جامدة أغلب الوقت ومتجاوبة بمرح خفيف أحيانا، إلا أنه داخله يشعر بنار الفراغ والقنوط المستعرة. بحمم الغضب تصهره، وكذلك بأمواج الحزن غير المبرر تغرقه. يترك نفسه يتجاوب مع الرجال، يوجههم ويدربهم ويجهز المتفجرات لعمليات الكتيبة، لكنه ما عاد يشعر داخله بأي حماس، وما عاد قادرا على استيعاب مبررات ما يفعل.
يضع مرفقه على زجاج السيارة ويسند رأسه على كف يمناه ويترك نفسه يغرق في رمال الصحراء.
ارتخى جسده وارتسمت بسمة خفيفة على شفتيه، وأخذه الحنين المباغت إلى فترة من حياته اعتقد أنه نسيها تماما. بدت له الذكريات كأنها مشاهد من حياة شخص آخر ما عاد يعرفه.
كان يومه الأول في الكلية. جالسا بخجل الشاب القادم من مدينة صغيرة محافظة إلى صخب العاصمة المدهشة بكل تفاصيلها. بزحمتها وصخبها، بشساعتها وتوحشها، بوفرتها وغلائها، بجمالها وتلوثها. كان يمسح ببصره أرجاء المدرج ويتوقف قليلا عند كل تجمع صاخب لطلاب وطالبات منغمسين في أحاديث ضاحكة مرحة، غير مهتمين بتأخر الأستاذ المحاضر الذي يبدو أنه لن يأتي في هذا اليوم، كعادة كل المحاضرين الذين، عرف لاحقا أنهم، يغالون في التأخر والتغيب إلى أن ينتصف العام الدراسي.
توقف بصره أكثر من مرة على فتاة تجلس في الصف أمامه تنغمس أحيانا في تسويد أوراقها، وترفع بصرها إلى السقف، ساهمة حالمة، أحيانا أخرى.
”تكتبين شعرا؟“
لا يعرف كيف أتته الجرأة ليلقي ذلك السؤال بتلك البساطة والطلاقة، ولا يتذكر شيئا مما حصل لاحقا سوى أن السعادة كانت تجري في عروقه مجرى الدم، وهو يتمشى رفقتها في أرجاء الجامعة، ثم يوصلها لاحقا إلى محطة الحافلات ويعود هو إلى السكن الجامعي.
قالت بأن اسمها إيمان. صار يلوك اسمها كثيرا تلك الليلة وهو ممدد على فراشه يتذكر الأحاديث المتنوعة التي أبحرا في أرجائها. رددا أشعار السياب والبياتي، ناقشا أفكار أدونيس، وتبادلا قراءة ابداعاتهما. قرأ أشعارها وقرأت قصصه القصيرة. لم تدم مدة لقائهما الأول أكثر من ساعتين، لكنها بدت له تلك الليلة كأنها الدهر كله.
تلك الأمسية بدت له الأروع في حياته. تتفوق في الروعة حتى على اليوم الذي تلقى فيه نتيجة البكالوريا التي وضعته على رأس قائمة المتفوقين في كامل الجمهورية، ومنحته دخولا ميسرا لكلية العلوم ومنحة دراسية كاملة.
تقفز السيارة على مرتفع صخري فيخرج أبو حفص من حنين الذكريات بابتسامة حزينة على شفتيه. يستغرب من أمر الذاكرة التي أعادت له فجأة، دون سابق إعداد، ذكريات كانت قد غابت تماما عن وعيه.
لا يعرف لماذا تذكر الآن إيمان. المرأة الوحيدة التي عرفها في حياته، غير والدته وأخته، المرأة والحبيبة التي استمرت علاقته بها طيلة سنوات الدراسة الأربع، كانت هي الفترة الأروع في حياته. لكنها انتهت كما بدأت. دفعة واحدة، بطريقة لا تبدو له مقنعة الآن وهو يسترجع ذكراها.
لم يكن يفصله عن انطلاق امتحانات سنة التخرج سوى ساعة واحدة حين وصلته تلك المكالمة التي ستقلب حياته رأسا على عقب، وتدخله في دوامة من الحزن والضياع لن يخرج منها إلا ليجد نفسه في أحضان الجماعات المجاهدة.
استقبل المكالمة وصمت منتظرا صوت والدته الحنون لتسأله، للمرة المليون، كيف هو استعداده للامتحان وتدعو له بالنجاح والتوفيق. إلا أن مفاجأته كانت صاعقة حين سمع أول ما سمع نشيج البكاء قبل أن يأتي صوت والدته مبحوحا منكسرا: ”بني، عد فورا. والدك توفي هذا الصباح.“
كل شيء توقف دفعة واحدة. واقفا في مكانه في حرم الجامعة تجمد تماما وما عاد يحس بأي شيء. لا الزمن يتدفق ولا الصوت يعبر في الأجواء. أحس كأن الكون كله توقف تماما، كأن روحه خرجت من جسده وحلقت في الهواء تنظر إلى الموجودات كأنها صورة ساكنة. قبضة قوية عصرت قلبه، وصرخة ألم انبثقت من روحه المنكسرة لترج المكان من حوله، ثم سقط على ركبتيه منطلقا في بكاء لم يبكه من قبل ولا من بعد.
لم يع كيف لملم أشلاء نفسه بعد ذلك ونهض، وكيف انطلق جريا إلى محطة القطار، كيف ركب القطار عائدا إلى مدينته، ولا كيف وصل إلى البيت قبل صلاة الجنازة عصرا. ما كان يحس بشيء وطوال الطريق لم يفكر في أي شيء. كان ذهنه صفحة فارغة تشع بياضا. بياض ناصع غلف ذاكرته ووعيه، ولم يحس بالحياة مجددا إلا وهو يرتمي في حضن والدته، وينفجر مجددا في نوبة بكاء.
”أبا حفص؟“
جاء تساؤل الأخ يونس خافتا فانتبه أبو حفص من غفوته ملتفتا إلى يساره.
أشار الأخ يونس إلى دمعتين انزلقتا على خدي أبي حفص.
”هل من خطب أبا حفص؟“
ارتبك أبو حفص ومسح بسرعة الدمعتين اللتين غافلتاه، وأجبر شفتيه على رسم ابتسامة سرعان ما بهتت.
”لا شيء. فقط تذكرت يوم وفاة والدي.“
”كل نفس ذائقة الموت أخي. غفر الله له ولنا ورحمنا جميعا.“ غمغم الأخ يونس وعاد يركز على قيادة السيارة، وعاد أبو حفص يفكر في الموت، ثم زفر حزنه في تنهيدة واسعة وردد بخفوت جملة تذكر أنه قرأها ذات يوم، مع إيمان، في رواية عنوانها لهيب الصحراء: ”مفاجئ هو الموت دوما. يأتيك على حين غرة ليسلبك أعز ما كان لديك. ليسلبك شخصا لن تعرف قدره إلا بعد أن يحجبه عن ناظريك.“
خفف الأخ يونس سرعة السيارة حين لاح له من بعيد قطيع إبل محمل بالصناديق، ثم توقف على بعد أمتار منه. نزل أبو حفص من السيارة، وتوجه إلى الشاب اليافع الذي يقود الإبل. تعليمات القائد حددت نقطة معينة عند الحدود الليبية مع الجزائر، عند هضبة تاسيلي، سيلتقون فيها براع للإبل، سيتكفل بإيصالهم إلى النقطة الموالية.
”الشمس تبدو زرقاء في هذه الصحراء.“
قال أبو حفص جملته الغريبة التي لقنه إياها القائد كمفتتح لشيفرة التواصل مع صاحب الإبل، الذي جاء رده أغرب.
”تصير حمرتها أجمل حين تَصفر السماء ليلا.“
”ليس أجمل من اخضرار البحر هنا.“
مد الشاب يده يصافح أبا حفص بعد التحقق من صحة الجملة الشيفرية.
”مرحبًا بكم سيدي. سأصحبكم من هنا إلى الطائرة.“
استغرب أبو حفص من ذكر الطائرة، لكنه لم يعلق. يدرك جيدا التعليمات، وبأنه يكفيه أن يعرف ما يحتاج فقط لمعرفته. يعرف أنه وإن كان يبدو قائدا لهذا الفريق الصغير إلا أنه مجرد فرد ينفذ أوامر سلسلة من القادة أعلاه، وبأن العملية كلها ستكون من تخطيط وإشراف أبي مصعب، الذي لم يلتق به بعد.
أشار أبو حفص إلى الرجال للنزول من السيارة، فأعطاهم الشاب مجموعة ملابس بدوية تشبه ملابسه الصحراوية، وطلب منهم تغيير ملابسهم.
غير الرجال لباسهم، وركبوا على الإبل، التي ظهر لهم أنها مثقلة بالخضروات ومواد تموينية بعد أن اختلسوا النظر إلى الشقوق في خشب الصناديق. بدوا الآن مجموعة من البدو الرحل أو تجار القوافل المتنقلين بين الواحات المتناثرة، التي صار عددها يتناقص باطراد، في هذه الصحراء الشاسعة.
انطلق بهم الشاب شمالا طيلة المساء عبر كثبان رملية ناعمة، متجنبا بحيرات الرمال المتحركة، ما كانت سيارتهم المتهالكة لتمر منها، إلى أن بدأت الشمس تختفي في الأفق على يسارهم، حينها ظهرت لهم مجموعة من الأبنية من طابق واحد مسيجة بسور أسلاك شائكة، وحين اقتربوا أكثر بدت لهم الثكنة العسكرية بوضوح أكبر. توقف أبو حفص وانعقد حاجبيه. تنفس بعمق محاولا تهدئة دقات قلبه المتسارعة، ثم أبعد عينيه عن العلم الجزائري المرفرف على أحد مباني الثكنة، وتابع سيره. (يتبع)